حين يصبح الرفض تكراراً نعتقد جميعنا أن النجاة تبدأ بلحظة الانفصال القاسية، حين نُقسم في أعماقنا أننا لن نصبح أبدًا كأولئك الذين أوجعونا، نتوهم أن إرادتنا الصارمة كافية لوقف التاريخ عند حدود ألمنا، وأننا سنكسر الدائرة المُهلكة بقرار واعي منا، لكن الحقيقة المؤلمة تكمن في أن الجرح حين يُترك بلا شفاء، لا يموت، إنه لا يختفي بمجرد إعلان الرفض، بل يتحوّل في صمت إلى سلوك جديد إلى دائرة أخرى بلون مختلف تُمارَس بعفوية هي أشد خطراً من التكرار المقصود.
قد ينمو الطفل الذي تألم من فراغ عاطفي أو قسوة قديمة وفي داخله الفراغ نفسه ليصنع بلا وعي ذات المشهد الذي كرهه أو شكلاً معاكساً له تماماً لكنه مبنيٌ على أساسه ليس لأنه أراد أن يكون نسخة، بل لأن اللاوعي لا يُفرّق بين الرفض والتكرار هو فقط يُعيد ما لم يُفهم بعد في صرخة خفية تقول انظر إليّ أنا ما زلت أتألم.
الوحدة والحرب وجهان لعملة الألم معظم من مرّوا بالصدمة لا ينجون منها فعلاً، بل يختارون أحد شكلين للبقاء على قيد المقاومة التوحّد مع المؤذي حيث يتبنّى الشخص سلوكيات المؤذي ليصبح قوياً في نظره أو يتجنب أن يكون ضحية مرة أخرى.
الحياة في حرب معه حيث يعيش الشخص حياته كلها كنقيض مطلق لذلك المؤذي، يرفض كل ملمح له حتى الإيجابي منها أحياناً خوفاً من التشابه، والشكلان في النهاية ليسا سوى وجهان لعملة واحدة، عملة ما زالت تحمل توقيع الألم الأول عندما تصبح الابنة التي عانت تحت يد أم قاسية، أماً متساهلة إلى حدّ العجز، خوفًا من أن تكون مثلها، فإنها لم تشفَ. في كلا الحالين، ما زال صوت الأذ هو الذي يُربّي الأول يصرخ بالعنف، والثاني يهمس بالخوف، لكن لا أحد منهما وصل إلى التعافي الحقيقي.
التعافي الحرية من الحاجة للنقيض التعافي لا يشبه الثورة، ولا يشبه الانتقام إنه لا يعني أن نصبح عكس من آذانا أن تكون عكس شخص ما، يعني أن ذلك الشخص ما زال هو القطب الذي تُحدد أنت بناءً عليه مسارك، التعافي يعني أن نصير أحراراً من الحاجة لأن نكون نقيضاً لأيّ أحد، هو أن نعيد الحكاية من بدايتها لا لنغيّر أحداثها بل لنفهمها، ونغفرها، ونختار أن نكملها بطريقتنا الخاصة، غير المرتبطة بردة فعل على ألم سابق، إن ما لم يُشفَ يعود إلينا متخفّياً في ملامحنا الجديدة، متكرراً في اختياراتنا، حتى نجرؤ أخيرًا على قول الحقيقة.
إننا لا نُؤذِي حين نكره المؤذي، بل حين لا نرى الجرح الذي جعلنا نشبهه أو ندور في فلكه ربما لهذا السبب، كان دعاء السكينة هو أكثر ما يلامس النفس التي تعبت من الدوران في دوائر الوجع.
اللهم امنحني السكينة لأتقبل ما لا أستطيع تغييره، والشجاعة لأغيّر ما أستطيع، والحكمة لأُميّز بينهما كأن النفس بعد كل هذه الدروس لا تبحث عن انتصار على الماضي، بل عن سكون يشبه الفهم أن تدرك أن كل ما حدث التكرار، الألم، الرفض، وحتى الارتباك لم يكن عبثاً بل طريقاً لتصل إلى تلك اللحظة الهادئة التي لا تريد فيها أن تكون ضد أحد، ولا شبيهة بأحد، بل فقط صالحة للسلام.
